قائمة المنشورات


 المنشورات


 العودة إلى المنتدى

منتدى المؤمنين والمؤمنات   

الاحتراز داء الأرواح!

أمة الرحمن | تم النشر بتاريخ 8/12/2020, 7:40 am | 492 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم



- كلما أوغل المرء في تلافيف الأيام، وتقلب بين صنوف المجالس، وتغيرت من حوله مئات الوجوه: أدرك دِقَّة مثل هذه العبارة: (من متع الدنيا أن تجد عقلا لا يضطرك إلى الاحتراز!) .

- ورد عن الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك أنه قال: (جربت جميع اللذات فما بقيت لي لذة إلا أخ تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ!).

- ليس المقصود بترك كلَفة الاحتراز وسقوط مؤونة التحفظ: مجرد نزع قناع "الرسمية"، واطراح التكلف الظاهري الذي نلبسه في العادة أمام الغرباء البعداء، فغالب الجلساء من جميع الأجناس والأمم يفعل هذا، الأمر أدق وأعمق من هذا التغيير السطحي بكثير !

- تأمل جيدا عبارة "تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ" ثم تجاوز بها حدود اللباس والرسوم الظاهرة، إلى حركة الأنفاس وتبادل الأحاديث ومناغاة الأرواح، فأثقل ما يكون هذا التحفظ والاحتراز إذا ألجأ المرء جليسه على دفع كل الاحتمالات اللغوية البعيدة في معاني كلامه ومطاوي أحاديثه، والتي يُعلم عقلا وحسا أنها ليست مرادة.

- اللذة النادرة هي أن تجد عقلا لا يضطرك دوما لذكر احترازات كثيرة ودفع توهمات بعيدة.. هو ليس مشغوفا البتَّه لإجراء قياس يومي لدرجة حرارة قناعاتك، وإنما تُفصح العينان عن المرادات كلما قصَّرت الحروف !

- هو يلتقط حتى تلك الفكرة التي تقلها بعد، ويعلق عليها أيضا وغالبها ما زال في جوفك (هو يعرفها!)، لأنه لم يقف يوما عند تخوم الألفاظ وحدود المفردات، فهو يدرك جيدا أن هذا هو الفاصل الدقيق بين الدردشة العذبة والأطروحة الأكاديمية !

- هو جليس نادر يدرك جيدا أنه لا يشترط ذكر القيود والحدود الجامعة المانعة في كل مناسبة وإنما (الحس والعقل ومعرفة مراد المخاطب قرينة متصلة تضم إلى الكلام) كما يعبر ابن تيمية.

- لا بأس أن يحترز المرء في مقالة عامة، في بحث محكَّم، في محاضرة جماهيرية، في مرافعة قانونية.. أما حين تحلق الأرواح وتتصافح أكفُّها، فالاحتراز يسقطها على الأرض كأنما هي منطاد انفجر بالونه !

- العقل الفاتن الذي لا يلجئك إلى الاحتراز هو كعقل الإمام الشافعي حين قوَّم تلميذه الربيع في عبارةٍ غلط فيها.. ثم قال له: (أعلم أنك لو سببتني ما أردتَّ إلا الخير!).

- حينما تقول له –مثلا- : السجن بلاء! لا تجده متحفزا مستوفزا لأن يتوثب عليك قائلا: هل كان يوسف –عليه السلام- مخطئا إذًا حين قال: (قال رب السجن أحب إليّ)؟! فيضطرك في كل موقف ومجلس إلى تفصيل وتأصيل وشرح وجهة نظرك!

- لا يلجئك إلى أن تلقي عليه أطروحة أكاديمية محكمة في جلسة مسائية ذات هواء عليل! وإنما هو يأخذ كلماتك المقتضبة ضمن سياقك الفكري المعهود!

- لا بأس أن يعترض على فكرتك التي طرحتها، وينقضها عن آخرها.. لكنه لا يتعامل مع الألفاظ كما لو كان محاميا جامدا سقط على ثغرة قانونية سيحسم بها القضية لصالح موكِّلِه !

- إذا ظفرتَ بمثل هذا العقل البهي الذي زالت بينك وبينه هذه الحواجز التي أثقلت كاهل غالب المجالس، فَعضَّ عليه بنواجذك، واغتفر له هفواته وزلاته، مستبقيا ظلالَ جسده مستدنيا جلالَ روحه.. فإنه معدن ثمين تكاد تخلو من مثله الأقطار!
 

سليمان بن ناصر العبودي

نبذة عن الكاتب