تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :السلام عليكم
تَرْجَمَةُ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ الْمُحَدِّثِ
أَبِي إِسْحَاقَ الْحُوَيْنِيِّ
أَوَّلًا: اسمه، ونسبه، وكنيته:
اسمه:هو حجازي بن محمد بن يوسف بن شريف؛ أبو إسحاق الحويني الأثري المصري موطنًا، ومولدًا، ونشأةً.
وقد سماه والدُه حجازي عند عودته من أداءِ فريضة الحج؛ من بلاد الحجاز -حرسها الله-.
كنيته:تَكنَّى في مطلع طلبه للعلم (بأبي الفضل،) لتعلقه بالحافظ ابن حجر -رحمه الله-، ثم ارتبط بكتب أبي إسحاق الشاطبي -رحمه الله-، فحُبِّبَت إليه كنيتُه، وتعلق بها لما علم أنها للصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-؛ فعُرف واشتُهِر بعد ذلك بين الناس بأبي إسحاق الحويني.
(وأما الأثري)؛ فهو المشتغل بعلم الأثر، أو الحديث، والمتبع في عقيدته ومنهجه لِمَا صحَّ منها
ثانيًا: مولده:
وُلِد الشيخ الحويني في يوم الأحد غرة ذي القعدة لسنة خمس وسبعين وثلاثمئة وألف، من الهجرة (1، وقيل 2 من ذي القعدة 1375هـ)، الموافق العاشر من شهر يونيه، لسنة ست وخمسين وتسعمئة وألف (10/6/1956م)،( بقرية حُوَين،) بمحافظة كفر الشيخ، بمصر
ثالثًا: نشأته:
نشأ الشيخ في بيت صلاح وفضل، وفطرة سليمة، لوالد محب لدينه، معظِّم لشرائعه، فكان صوَّامًا، قوَّامًا كما حدَّث عنه الشيخ، وكان الوالد ذا حشمة بين أهل القرية، يَعُدُّونه شيخًا لها، فكان يدخل بمشورته في فض النزاع والخصومات بين الناس.
وقد تزوج والد الشيخ -رحمه الله- من ثلاث نسوة -رحمة الله عليهن-، ورُزق بذرية مباركة منهن: ثمانية من الذكور، وسبعة من الإناث، وكان الشيخ من زوجته الثالثة -رحمها الله-.
عُرف والدُ الشيخ بمحبته للقرآن الكريم، ولحملته، وقُرَّائه؛ لا سيما الشيخ محمد صديق المنشاوي -رحمه الله-، والذي كان ينعت صوته بالحنان، وكان الشيخ في ذلك الوقت في الصف الخامس الابتدائي، فنشأ متعلقًا به.
وكان الوالد -رحمه الله- شغوفًا بالقرآن سماعًا وقراءةً، فلم يكن يستمع إلا إلى إذاعة القرآن الكريم، حتى إنَّ محرك مؤشر الإذاعة أصابه الصدأ؛ لأنه يبس من تركه، وعدم تحويله إلى غير إذاعة القرآن الكريم.
وكان والد الشيخ من المحبين لمن يظن بهم الصلاح كالممارسين للتصوف العملي، وكانت تلك ظاهرةً في قرى مصر في ذلك الوقت، مع غربة أهل السنة، فكان الشيخ يجلس مع أبيه -رحمه الله- في بعض هذه المجالس فأخذ من سمت هؤلاء الصالحين، وما يظهر عليهم من حشمة، ولكن لم يتأثر بما كان يذكر أمامه من قصصٍ وخرافات آنذاك.
وعن أثر الوالد في الشيخ يقول الشيخ حفظه الله: أخذنا من والدي صلاحه، وكان محبًّا لأهل الديانة.
ومضى الوالد على هذا السمت الصالح في حياته، عطِر السيرة، محبوبًا بين الناس، حتى توفِّي يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر صفر لسنة اثنين وتسعين وثلاثمئة وألف؛ من الهجرة (13صفر1392هـ)، الموافق الثامن والعشرين من شهر مارس لسنة اثنين وسبعين وتسعمئة وألف (28/3/1972م)، ودفن في يوم الأربعاء الذي يليه، رحمه الله تعالى ورضي عنه وغفر له.
رابعًا: مراحل دراسة الشيخ في المؤسسات التعليمية:
1- درس المرحلة الابتدائية بمدرسة الوزارية الابتدائية بقرية الوزارية.
2-درس المرحلة الإعدادية بالمدرسة الإعدادية القديمة، بعاصمة المحافظة كفر الشيخ.
3- درس المرحلة الثانوية بمدرسة الشهيد عبد المنعم رياض، بعاصمة المحافظة كفر الشيخ، وهي ملاصقة للمدرسة الإعدادية.
4-درس المرحلة الجامعية، بجامعة عين شمس، كلية الألسن، قسم اللغة الإسبانية، بالقاهرة، وكان طيلة السنوات الأربع لا يَتخلف عن الثلاثة الأوائل على دفعته.
5-وأُرْسل إلى بعثةٍ لإسبانيا؛ لتفوِّقه، ولم يمكث هنالك أكثر من شهرين تقريبًا، لكَدَرِ نفسه بالمخالفات التي كانت في الديار الإسبانية، وبهذه الرحلة أعفى لحيته، ثم عاد إلى مصر.
• خامسًا: بداية تعلُّقه بالقراءة، ومن ثَمَّ بطلبِ العلمِ:
بدأ الشيخُ منذ صِغرِه بالتعلُّق باللغة العربية وآدابها، فكان يَقرأ القصص الأدبية؛ مثل: «النظرات» و«العبرات» لمصطفى لطفي المنفلوطي، و«شارع الذكريات» لجليل البنداري.
ومن الأدبِ العالمي: «قصة رامونا»، وكان لعناية أخيه الأكبر الدكتور رزق -حفظه الله- أثرٌ كبيرٌ في ذلك، والدكتور رزق كان قد التحق بكلية الطب، جامعة الأزهر، ثم عمِل بالصحافة، وكان له مقالٌ ثابتٌ في جريدة الأحرار، وعمِل أيضًا ببيع الكتبِ الطبية في فترةٍ من حياتِه، وأخذ مكانَ الوالد بالنسبةِ لإخوته الأشقاءِ لأبيه وأمِّه، وكان من ثمرةِ هذا، أنِ التحقَ به من إخوتِه في كلية الطب الدكتور شريف، والدكتور سمير، والتحق الأستاذ محمد بكلية دار العلوم، وكان يُعِدُّ الشيخَ الحوينيَّ أيضًا لكلية الطب بعد أخيهِ شريف، ولكنْ إذا أراد الله -عز وجل- شيئًا؛ هيَّأ أسبابه.
وكان من أثرِ محبة الشقيق الأكبر للشيخ الدكتور رزق للقراءة؛ أنْ تأثَّر الشيخُ بذلك، لا سيَّما وقد حَوَتْ مكتبة الدكتور رزق كتبًا كان لها أثر بيِّنٌ في هذا الباب.
وأقبل الشيخُ على الشِّعْر بنهمةٍ وحُبٍّ، فقرأ أشعار البارودي وشوقي وحافط وعلي الجارم، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم -رحمهم الله-، وقد كان البارودي -فارس السيف والقلم- مُحَبَّـبًا إليه، فهو الذي غرس في قلبِه بذرة تذوُّق الشعر، وقد كان الشيخُ يَعُدُّه مِمَّن يستحق لقب متنبي العصر.
سادسًا: بداية طلبه لعلم الحديث:
أخذ الشيخُ القرآن على خاله الشيخ عبد الحي زيَّان -رحمه الله-، وكان خالُه متميزًا في القراءات، ثم أقبل بكليته على علم الحديث، بعد تعلقه بالعلم الشرعي بفترة قصيرة، وكان في تلك الفترة يحاول نشر السنة في بيئة لا تعرف إلا أصحاب الكرامات من المتصوفة، أو من على شاكلتهم، وكان إذا اشتد النكير عليه من بعض الناس، وكأنه جاء بِدِين جديد؛ يخرج إلى الخلوات ويرفع يده وبصره إلى السماء، ويقول: «اللهم ارزقني، وأعلِ كعبي؛ لأثبت لهم أن من قصدك، ورجاك لا يخيب».
وكتب الشيخ عن بدايته في علم الحديث في مقدمة طبعته الأولى من كتابه «تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد»، والتي قدم لها في شهر جمادى الآخرة لسنة ثماني عشرة وأربعمئة وألف من هجرة خير من وطِئ الحصى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «... ففي صيف عام (1395هـ) كنت أصلي الجمعة في مسجد «عين الحياة»، وكان إمامه إذ ذاك: الشيخ عبد الحميد كشك –رحمه الله تعالى- وكان تجار الكتب يَعرضون ألوانًا شتى من الكتب الدينية أمام المسجد، فكنت أطوف عليهم وأنتقي ما يعجبني عنوانه، فوقعت عيني يومًا على كتاب عنوانه: «صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من التكبير إلى التسليم كأنك تراها»، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، فراقني اسمُه، فتناولته بيدي، وقلبت صفحاته، ثم أرجعته إلى مكانه؛ لأنه كان باهظ الثمن لمثلي، وكان إذ ذاك بثلاثين قرشا! ومضيتُ أتجول بين بائعي الكتب، فوقفت على كتاب لطيف الحجم بعنوان: «تلخيص صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-»، ففرِحت به فرحةً طاغيةً، ولم أترددْ في شرائه، وكان ثمنه خمسة قروش، ولم أشترِ غيره؛ لأنه أتى على كل ما في جَيبي! ومن فرحتي واغتباطي به قرأته وأنا أمشى في طريقي إلى مسكني مع خطورة هذا المسلك على من يَمشي في شوارع القاهرة.
ولما أويتُ إلى غرفتي تصفحت الكتاب بإمعان، فوجدته يدق بعنف ما ورثته من الصلاة عن آبائي؛ إذ إنَّ كثيرًا من هيئتها لا يمت إلى السنة بصلة، فندمت ندامة الْكُسَعِيِّ أنني لم أشتر الأصل، وظللت أحلم بيوم الجمعة المقبل -وأدبِّر ثمن الكتاب طوالَ الأسبوع-، وأنا خائفٌ وَجِلٌ ألَّا أجدَه عند البائع، وكنت أدعو الله أن يُطيل في عمرى حتى أقرأه، ومَنَّ الله عليَّ بشرائه فلما تصفحته، ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح ُ من الصباح! وهزَّني هزًّا عنيفًا، لكنه كان لطيفًا، مقدمته الرائعة الماتعة في وجوب اتباع السُّنة، ونبذ ما يخالفها تعظيمًا لصاحبها -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ نُقولُه الوافيةُ عن أئمة المسلمين، إذ تبرأوا من مُخالفة السنة أحياءً، وأمواتًا، فرضي الله عنهم جميعا، وحشرنا وإياهم مع الصادق المصدوق -بأبي هو وأمي!-.
سابعًا: بحث الشيخ عن شيوخ علم الحديث:
كان الشيخ وصل إلى عامه العشرين تقريبًا، وكان العلم غريبًا آنذاك، لا سيما علم الحديث، ولم يكن من السهل الوصول لمتخصصٍ في هذا العلم يُتلقى عنه، ولكن بعد قصة الشيخ مع شيخه الشيخ كشك، عزم على البحث عن شيخٍ يَشرح له هذا العلم.
وعن هذا يقول الشيخ في مقدمة كتابة «تنبيه الهاجد» -المشار إليها فيما تقدم-: «وطفقت أسأل كل من ألقاه من إخواني عن أحدٍ من الشيوخ يَشرح هذا العلم، أو يدلني عليه، فأشار عليَّ بعضُ إخواني -وكان طالبًا في كلية الهندسة- أن أحضر مجالس الشيخ محمد نجيب المطيعي -رحمه الله تعالى- وكان شيخنا -رحمه الله- يُلقي دروسه في «بيت طلبة ماليزيا»، بالقرب من ميدان «عبده باشا» ناحية العباسية، وكان يشرح أربعة كتب، وهي «صحيح البخاري»، و«المجموع للنووي»، و«الأشباه والنظائر» للسيوطي، و«إحياء علوم الدين» للغزالي -رحمهم الله جميعًا-.
فوجدت في هذه المجالس ضالتي المنشودة، ودُرَّتي المفقودة، فلزمته نحو أربع سنوات، حتى توقفت دروسه ، ورحل الشيخ -رحمه الله- إلى السودان، وظل هناك حتى توفِّي -رحمه الله- بالمدينة، ودُفن -رحمه الله تعالى- في البقيع -كما قيل لي-.
وأتاحتْ لي هذه المجالسُ دراسةَ نُبَذٍ كثيرة من علمي أصول الحديث، وأصول الفقه، ووالله! لا أشطط إذا قلتُ: إنني أبصرت بعد العمى لَمَّا درست هذين العلمين الجليلين، وأقرر هنا أن الجاهل بهذين العلمين لا يكون عالمًا مَهما حفظ من كتب الفروع؛ لأن تقرير الحق في موارد النزاع لا يكون إلا بهما؛ فعلم الحديث يُصحح لك الدليل، وعِلم أصول الفقه يُسدد لك الفهم، فهما كجناحي الطائر.